2024-03-29 الساعة: 11:45:58 (بتوقيت القدس الشريف)

ياسر عرفات "أبو عمار"

 مهما اختُلف في مكان مولد الشهيد -المغفور له باذن الله تعالى- الزعيم الشهيد ياسر عرفات، فإنه ولد في مدينـة القدس، في 5/ أغسطس 1929، لأب تاجر، اسمه عبدالرؤوف عرفات القدوة. وأمه هي زهوة أبو السعود، من منطقة القدس؛ وتربطها صلة قرابة بمفتي القدس الراحل، الحاج أمين الحسيني. قضى عرفات طفولته، على بعد خطوات من حائط البراق، حيث كان يتابع الانتفاضات الدموية، إبّان الانتداب البريطاني. وعاش وسط عائلة الحسيني، التي تنتمي إليها أمه.

الشهيد ياسر عرفات واحد من سبعة أشقاء وشقيقات؛ انتقل والده إلى القاهرة؛ ولكن لا أحد يعرف أسباب انتقاله، وإن كان هناك من يعتقد أن الإنجليز نفوه إليها. وثمة من يقول إنه رحل لأسباب تجارية. وأيّاً كانت أسباب انتقاله إلى القاهرة، فإنه واصل عمله في تجارة المواد الغذائية، بالجملة، وافتتح مصنعاً للأجبان التي كانت تباع في العالم العربي.

ويصعب القول إن الشهيد ياسر عرفات، عاش مراهقة، كسائر أقرانه وزملائه؛ فقد كانت اهتماماته منذ الطفولة، منصبة على أشياء تتجاوز سنّه، وتختلف عن تلك التي يهتم بها الشباب عادة، في سن المراهقة. كان مولعاً بالسياسة، والشؤون العسكرية؛ يشغله احتلال الاستعمار للعالم العربي.

وشارك في المظاهرات المعادية للاستعمار الإنجليزي في مصر. وحضر كثيراً من الندوات السياسية، التي كانت تعقد فيها وقتئذ. وانضم في شبابه إلى الحركة الوطنية الفلسطينية؛ من خلال الانضمام إلى "اتحاد طلاب فلسطين" عام 1944، الذي ترأسه، بين عامَي 1953 و1968.

 وشارك في تهريب الأسلحة والذخيرة من مصر إلى الثوار في فلسطين. وأسهم في حرب 1948، وخاصة حصار مستوطنة كفار داروم في غزة.

واسم (ياسر) ليس هو اسمه الحقيقي؛ وإنما أطلق عليه منذ طفولته المبكرة؛ لسماحة وجْهه -كما تقول شقيقته الكبرى- أمّا اسمه الحقيقي فهو(محمد عبدالرؤوف عرفات القدوة) حسب قول أحد رفاقه في "حركة فتح". أمّا الموسوعة البريطانية، فتسميه عبدالرحمن رؤوف القدوة. وأبو عمار، هو اسمـه الحركي، الذي أطلقه على نفسـه؛ تيمناً بالصحابي عمار بن ياسر.

عاش الشهيد ياسر عرفات متفرغاً للقضية الفلسطينية؛ عازفاً عن كثير من ملذات الحياة. وعندما سألته أخته: "لماذا لم تتزوج؟"، أجابها: "أتريدين أن أتهم بتعدد الزوجات؟ ألا يكفى امرأتي الأولى، الثورة الفلسطينية‍"؟

خلال حرب 1948، كان عرفات إلى جانب عبدالقادر الحسيني -ابن عم المفتي، الحاج أمين الحسيني- وبعد النكبة، انتقل مع عائلته إلى غزة، التي كانت تحت الإدارة المصرية؛ ما ساعده على الوصول إلى القاهرة، ومتابعة دروسه في كلية الهندسة -جامعة الملك فؤاد الأول ـ (جامعة القاهرة الآن).

انضم الشهيد ياسر عرفات، إلى مجموعة المناضلين المصريين، محارباً معهم الإنجليز في منطقة قناة السويس، بين عامَي 1951 و1952؛ حيث تعرّف إلى بعض قادة الثورة المصرية؛ ومنهـم كمال الدين حسين، وخالد محيي الدين، ومجدي حسنين، وعدد آخر من أعضاء مجلس قيادة الثورة المصرية؛ وأقنعهم أن يقبلوا أول دفعة من الضباط الفلسطينيين من أبناء قطاع غزة في الكلية الحربية المصرية. وكان هؤلاء هم دعائم جيش التحرير؛ ومنهم قائد قوات عين جالوت (منصور الشريف) ومساعد رئيس الأركان (عبد الرازق المجايدة)، وفخري شقورة.

وفي عام 1952 انتخب الشهيد ياسر عرفات رئيساً لاتحاد الطلاب الفلسطينيين بأغلبية ساحقة. وظل محتفظاً بهذا المنصب إلى أن أكمل دراسته الجامعية عام 1956. ويقول البعض: "إن الشهيد ياسر عرفات في أوائل الخمسينيات، لم يلتحق بأيّ حزب سياسي؛ ولكنه كان يعلم على الأقل، ما هو مضرّ بالقضية الفلسطينية". وإذا صح هذا القول، فعرفات كان عنده حب الانتماء القومي والقطْري إلى الأمة العربية، والشعب الفلسطيني. وكان على قناعة بأن الأحزاب السياسية القائمة، والأنظمة العربية الموجودة في تلك الفترة، لا تستطيع عمل شيء للقضية الفلسطينية؛ ما دفعه إلى إنشاء معسكر لتدريب طلاب الهندسة، الراغبين في الاشتراك في الأعمال الفدائية، المتصدية للبريطانيين في منطقة السويس، ثم إنشاء "حركة فتح"، فيما بعد.

وأثبت عرفات -من خلال قيادته لاتحاد الطلبة- أنه يمتلك جميع مقومات القائد ومواهبه، وقدرته على فرض هيمنته على الآخرين. كما أثبت قدرة فائقة على العمل؛ ونجح من خلال اتصالاته أن يصل إلى اللواء محمد نجيب (قائد ثورة يوليو 1952)، على رأس وفد من طلبة فلسطين؛ وقدم إليه عريضة مكتوبة بالدم، باسم شهداء فلسطين ومصر، الذين ضحوا بحياتهم من أجل فلسطين. وفي هذا اللقاء، التقى عرفات للمرة الأولى عبد الناصر.

سافر الشهيد ياسر عرفات عام 1954، على رأس وفد إلى صوفيا؛ لحضور مهرجان رعاه الاتحاد الدولي للطلاب الفلسطينيين في جامعة القاهرة. وفي هذه الفترة، أدرك فشل الحكومات العربية، وضعف الدول العربية وتشتتها، وغياب تنظيم يجسد الشرعيّة الفلسطينية تجسيداً حقيقياً وفعالاً، وأهمية الاتصال بمختلف القيادات الفلسطينية في أماكن وجودها، في غضون الأنشطة الطلابية للشباب الفلسطيني. وتشكلت أول نواة فلسطينية، عام 1954 في غزة؛ لمحاربة العدوّ الإسرائيلي، فيها الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، وكذلك أبو يوسف محمـد النجار، وصلاح خلف (أبو أياد).

وعندما أكمل الشهيد ياسر عرفات دراسته الجامعية، وتخرَّج مهندساً مدنياً، فقد قيادته لاتحاد الطلبة، الذي كان غطاء لعمله السياسي. ولكنه سرعان ما وجد غطاء جديداً، إذ أنشأ ما أسماه "جمعية اتحاد الخريجين الفلسطينية"، التي كانت سبيله إلى الاتصال بخريجي فلسطين، في خارج مصر. وقبيل العدوان الثلاثي على مصر، عام 1956، كان الشهيد ياسر عرفات ضابطاً احتياطياً، أرسل إلى بورسعيد؛ ليشارك في إطار سلاح المهندسين المصري، في عمليات نزع الألغام.

لقد حضر خليل الوزير (أبو جهاد) إلى القاهرة، عام 1956، لإكمال تعليمه. وبدأ التحـرك مع الشهيد ياسر عرفات، في اتجاه تشكيل حركة فلسطينية مستقلة. ووضعا معاً في القاهرة، المبادئ الأولية، التي انطلقت منها "حركة فتح".

عمل الشهيد ياسر عرفات، بعد تخرُّجه في جامعة القاهرة مدة سنتَين في المحلة الكبرى في مصر. وبعد ذلك، سافر إلى الكويت، للعمل فيها، في أوائل عام 1957. وكان مهندساً، يتمتع بكثير من التقدير والاحتـرام في وزارة الأشغال العامة في الكويت. وامتلك ثروة هائلة، كان ينفقها على تحركاته، وتحركات رفاقه، التي مهدت لإعلان "حركة فتح".

والتقى عرفات كلاًّ من خليل الوزير، وفاروق القدومي، وعادل عبدالكريم، ويوسف عميرة، في الكويت، حيث شُكِّلت أول خلية لـ "حركة فتح"، توسعت فيما بعد، لتكون أول لجنة مركزية على الأرض الكويتية، حيث كان يصرف عليها من شركته الخاصة. والتف حوله عدد قليل في سِّرية تامة. واجتمع مؤسسو "حركة فتح" في الكويت، في 10 /أكتوبر 1959؛ فكان اجتماعهم، هو النواة الأولى لِما سيصبح في أقلّ من عشر سنوات، أقوى منظمة تحرير وطني عرفتها فلسطين؛ إذ أمكن إعداد عدة وثائق، والموافقـة عليها في شأن بنـاء الحركة ونظامهـا الداخلي، وإستراتيجيتهـا، ووسائـل عملها، وتمويلها.

حضر الشهيد ياسر عرفات المؤتمر الفلسطيني الأول، في مدينة القدس، عام 1964، هو وبعض رفاقه من "حركة فتح"؛ على الرغم من اقتناعهم بأن المنظمة لن تفي بمتطلبات الشعب الفلسطيني؛ بسبب سيطرة بعض الدول العربية عليها. كذلك، زار عرفات بكين مرتَين قبل أن يصبح رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية: الأولى عام 1964، والثانية عام 1966، وأسفرت عن وعود بالمعونة، تجسدت بعد حرب يونيو 1967 إذ تلقّى العديد من الجماعات الفدائية التدريب العسكري منذ عام 1968، في معسكرات  الصين.

كان الشهيد ياسر عرفات، هو صاحب الرصاصة الأولى للثورة الفلسطينية، ليلة رأس السنة من عام 1965؛ ولم يكن قد تجاوز عمره 35 عاماً. وبعد نجاح العملية، راح بنفسه يوزع البيانات على الجرائد، في بيروت، حيث ظهر أول مرة، اسم "فتح"، واسم أبو عمار. ولعل البيان الأول، كان على درجة من الأهمية؛ وقد جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم. مؤمنين بحق شعبنا في النضال من أجل استعادة وطنه المغتصب؛ وبالثورة العربية من المحيط إلى الخليج؛ وبدعم قوى التحرر في العالم، قامت وحدات من قواتنا المقاتلة، ليلة 31/ ديسمبر 1964، بعمليات ناجحة، أوكلت إليها داخل الأراضي المحتلـة. وعادت إلى قواعدها سالمة" (الملحقان الرقمان 10 و11).

كان أبو عمار يشرف على العمليات الفدائية، ويتقدم الشباب في العمل الفدائي، ويفتح المجال أمامهم؛ لكي يأخذوا دورهم. وكان يمارس قيادة حازمة في اتخاذ القرار، ويتفقد أُسَر الشهداء في حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، في بداية تكوينها. وتعرّض للسجن، فقد أوقفته السلطات البعثية في سورية، عام 1965؛ لاشتباهها باشتراكه في تخريب خط أنابيب التابلاين؛ ثم أفرجت عنه بعد بضعة أيام؛ لعدم وجود أدلة تدينه. كما أودعته السلطات البعثية في سورية، سجن المزة مع بعض قادة "فتح"، الذين كانوا في دمشق حينها؛ ومنهم خليل الوزير، ووليد أحمد نمر (أبو على أياد)، وممدوح صيدم (أبو صبري). ووجهت إليهم اتهامات اغتيال اثنَين من أعضاء فتح، في نهاية فبراير 1966، كانا يعملان في مصلحة النظام السوري؛ وهما: يوسف الأعرابي، ومحمد حشمت، وكلاهما فلسطيني، تطوع في صفوف "العاصفة". ولكنها أفرجت عنهم بعد جدال عنيف، على أثر اتصالات صلاح خلف، وفاروق القدومي، ومحمد يوسف النجار مع وزير الدفاع السوري في تلك الفترة، حافظ الأسد؛ وبعد أن طرحت عليهم العديد من الأسئلة عن "فتح"، وأيديولوجيتها وأهدافها، وعن عرفات بخاصة، الذي كان يعرف حينها، باسمه القتالي: "رؤوف".

قاد أبو عمار أثناء حرب يونيو 1967، عمليات تسلل خلف خطوط العدوّ؛ الهدف منها تعويقه. وحينما تأكدت الهزيمة، صمم الشهيد ياسر عرفات على مواصلة النضال حتى تحرير فلسطين. وكان أول من دخل إلى الأراضي المحتلة لتنفيذ أعمال عسكرية، غايتها رفع الروح المعنوية للسكان؛ بينما كان العالم العربي كلّه غارقـاً في الهزيمة.

كان أبو عمار ينفذ عمليات عسكرية ناجحة، تقلق أجهزة الأمن الإسرائيلي. وبلغ حرصه على سرّية العمل الفدائي، أنه مر أمام البيت الذي عاش فيه طفولته، في القدس نفسها؛ وكان أخوه واقفاً ببابه، فمرّ صامتاً، حتى إنه لم يلق التحية عليه؛ حتى لا ينكشف أمره.

بدأت فتح، بقيادة الشهيد ياسر عرفات، تبني مواقعها الارتكازية، على طول نهر الأردن، بعد هزيمة عام 1967. وحينما اشتد العمل الفدائي، في مطلع عام 1968، شنت إسرائيل هجوماً على مدينة الكرامة؛ فطلبت السلطات الأردنية من عرفات الانسحاب منها؛ ولكنه رفض ذلك وقال: "نطعـم لحومنا لجنازيـر الدبابات، ولا ننسحب". وخاض معركة من أعظم المعارك الفدائية وأعجبها، ومعه عدة مئات من الفدائيين، كبّد فيها إسرائيل خسائر بشرية ومادية، وأجبر قواتها على الانسحاب، بعد أن عجزت عن تحقيق أي تقدم، وأرهقها أسلوب حرب العصابات. وسجلت معركة "إثبات الذات الفلسطينية" أشرف نصر للمقاتل الفلسطيني، الذي طال سلاحه الجيش الإسرائيلي لأول مرة، الذي قيل إنه لا يُقهر؛ حتى إن بعض المؤرخين، يرون أن الانطلاقة الفلسطينية، بدأت يوم الكرامة. بعـد هذا النصر العظيم الذي حققه الفدائي الفلسطيني، بصموده في وجه الأعداء، بقيادة أبو عمار؛ استمر عرفات في قيادة العمل الفلسطيني على الجبهات، واستمر التأييد يصل إلى الثورة الفلسطينية، وخاصة من جمهورية مصر العربية، ورئيسها جمال عبد الناصر الذي أعلن في بداية عام 1968، أنه يؤيد العمل الفدائي، ويمده بكل إمكاناته المادية والمعنوية.

أعقب ذلك تعيين الشهيد ياسر عرفات، في 15/ أبريل 1968، ناطقاً رسمياً باسم "حركة فتح"، واستطراداً، باسم "العاصفة". وهكذا، حمل أبو عمار الأمانة، وبدأ يتحمل متاعب الشعب الفلسطيني، وتجشَّم مسؤولية نجاح الثورة الفلسطينية. وبدأت الاتصالات بين المنظمة و"حركة فتح" من أجل انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني الرابع، الذي انعقد في أكتوبر 1968، في القاهرة، حيث اتُُُّفِق علـى وضع الأسس اللازمة لإعادة تكوين منظمة التحرير الفلسطينية.

 كما أرسى الشهيد ياسر عرفات الأسس الفكرية والسياسية والتنظيمية للمنظمة، بما يتفق وتطورات الأحداث خلال تلك الفترة؛ إذ مَسَّت الحاجة إلى تعديل الميثاق القومي والنظام الأساسي تعديلاً جوهرياً؛ وهو ما طالبت به "حركة فتح"، برئاسة أبو عمار.

لقد أصبحت الوحدة الوطنية الفلسطينية هدفاً كبيراً، ولكن وفقاً لمقولة عرفات: "لا نريد وحدة مكاتب، ولا وحدة مناورات سياسية؛ ولكننا نريدها وحدة حقيقية؛ تستمد نبضها من ميدان النضال". وأسفر جهده من أجل الوحدة؛ عن تنسيق قوات "العاصفة" وقوات التحرير الشعبية، عملياتهما في داخل إسرائيل.

وفي الأول من فبراير 1969، انعقدت الدورة الخامسة للمجلس الوطني الفلسطيني، بحضور جميع المنظمات الفدائية، باستثناء "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، و"جيش التحرير الفلسطيني"، اللتين عارضتا سيطرة "فتح" على معظم مقاعده. وانتهت الدورة إلى انتخاب الشهيد ياسر عرفات رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ وبذلك، تكون "حركة فتح"، قد انضمت للمنظمة، بل تولت رئاستها؛ فأصبح الناطق الرسمي باسمها رئيساً للجنتها التنفيذية.

منذ تلك اللحظة، بدأت المنظمة تزداد أهمية، على المستويات: السياسي، والعسكري، والاقتصادي، والاجتماعي، في الساحتَين: العربية، والدولية. حيث بدأ نشاطها يزداد في ضوء خطة العمل، التي أقرها المجلس الوطني الفلسطيني، وخصوصاً توحيد الكفاح المسلح الفلسطيني؛ إذ سعى عرفات إلى حل الخلافات الداخلية بين فصائل المقاومة الفلسطينية، فعقدت اللجنة التنفيذية اجتماعاً، في عمّان، في 16 و17/ فبراير 1969، وقررت تشكيل هيئة باسم "قيادة الكفاح المسلح الفلسطيني"، بمشاركة تلك الفصائل كافة. كما اتخذت قراراً، يقضي بتطوير "جيش التحرير الفلسطيني"، وزيادة عدده وقدرته، وتطوير أسلحته. كذلك، اتخذت قراراً يضمن رعاية المرضى، والمصابين، والشهداء، والأسْرى من ذلك الجيش، ومن قوات التحرير الشعبية، والمدنيين الفلسطينيين في داخل فلسطين وخارجها. وتلك التطورات والإصلاحات، هي أول الثمار، في ظل رئاسة عرفات لمنظمة التحرير الفلسطينية.

بعد أن تسلُّم الشهيد ياسر عرفات رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير؛ بادر إلى تدعيم موقف المنظمة، عالمياً؛ فزار الاتحاد السوفيتي، على رأس وفد منها، في فبراير 1970، تلبية لدعوة من اللجنة السوفيتية للتضامن مع بلدان آسيا وإفريقيا. وفي خلال الزيارة، اجتمع عرفات مع ممثلي الأوساط الاجتماعية السوفيتية، والشخصيات الحزبية والرسمية. وعلى أثرها، بدأت عملية تطوير التعاون بنجاح بين المنظمات السوفيتية والفلسطينية، الاجتماعية والثقافية والشبابية والنسائية، والاتحادات.

وفي السبعينيات، اشتد العمل الفدائي المسلح في الأراضي المحتلة. وواجهت منظمة التحرير أشد مشاكلها خطراً، وهي مشكلة الخلاف بينها وبين النظام الأردني، الذي أصدرت حكومته بياناً، في 10/ فبراير 1970، تضمن (11) نقطة، استهدفت التشدد مع حركـة المقاومـة، والسيطـرة عليها، والحـد من حركتها وفاعليتها.

لم يتوانَ عرفات في إنقاذ المنظمة؛ ولكن إصرار الأردن على خطته، أرغم الفلسطينيين على الدفاع عن أنفسهم؛ فكانت مذابح عامَي 1970 و1971، ولا سيما "أيلول الأسود" (سبتمبر) إيذاناً بنهاية الوجود الفلسطيني المتنامي في الأردن. وكانت تلك الضربة من أقسى الضربات، التي تلقتها قوات المقاومة الفلسطينية، منذ تكوينها. غير أن عرفات، استطاع أن يحافظ على كيان منظمة التحرير الفلسطينية، وقوى الثورة الفلسطينية؛ فخرج بقواته من الأردن إلى لبنان.

كان عرفات يشارك من حوله في صنع القرار واتخاذه. وهو رجل عسكري وسياسي واجتماعي؛ عنيد في بعض المواقف؛ ومقاتل شرس في مواقف أخرى. إنه يتمتع بإرادة حديدية، تنقذه من أيّ أزمة مهما اشتدت؛ وبدأ في مواصلة المسيرة خلافاً لظن خصومه، أنهم تمكنوا من السيطرة عليه، ودفعه إلى خارج مسرح الأحداث. والدليل على ذلك، ثباته على الرغم من خروجه من الأردن ولبنان.

كان عرفات يطلِع الزعماء والملوك والرؤساء العرب، على أوضاع الشعب الفلسطيني. فعشية مذابح "أيلول الأسود"، بعث إليهم ببرقية يطلِعهم فيها على الأوضاع في الأردن، وقال لهم: "اللهم، فاشهد أني بلغت".

لقد استطاع أن يضع منظمة التحرير الفلسطينية في معظم المحافل الدولية، في مكانة سياسية ودبلوماسية، ربما لم تحرزها أيّ حركة من حركات التحرير. فالمنظمة عضو مراقب في الأمم المتحدة، ودول عدم الانحياز، والدول الإسلامية، وجامعة الدول العربية، وعضو مراقب في منظمة الوحدة الإفريقية. وقد أنشأت في أكثر من مائة وسبع عشرة دولة: سفارات، وممثليات، ومكاتب، إضافة إلى الدعم السياسي، الذي تلقاه من جميـع حركـات التحـرر، والأحـزاب، والهيئـات التقدمية والعمالية.

لقد استطاع عرفات أن يبني علاقات سياسية بالدول العربية والعالمية؛ وكذلك علاقات اقتصادية. ووقّع اتفاقيات اقتصادية وخاصة مع الدول الاشتراكية -والمعروف دولياً أن اتفاقيات التعاون لا توقَّع إلا بين الدول- ولذا، كانت المنظمة هي أول حركة تحرير وطني في التاريخ، توقّعها. فقد أبرمت مثلاً، اتفاقية اقتصادية مع ألمانيا الديمقراطية؛ وفي أثناء التوقيع، قال وزير التجارة الألماني: "إننا نعرف مع من نوقِّع هذه الاتفاقية ولماذا؟. نحن نوقِّع اتفاقية مع منظمة التحرير؛ وهي حركة تحرير وطني ولكننا نوقِّعها، لكي ننقل اعترافنا بكم، من الاعتراف السياسي إلى الاعتراف بحق تقرير المصير على الأرض الفلسطينية نفسها".

عندما خرج عرفات من الأردن وأخذ يبني قواته من جديد في لبنان، كان هدفاً للهجمات الإسرائيلية، بدءاً بتلك التي وقعت في الأيام الأربعة الأخيرة من فبراير 1972، وانتهاءً إلى حصار بيروت، عام 1982.

أمّا حرب 6/ أكتوبر 1973، فقد كانت خيراً لمصر والأمة العربية، والقضية الفلسطينية؛ إذ شرعت أمام عرفات، أبواباً جديدة سوى باب الحرب؛ منها باب السلام، واعتراف الدول العربية عام 1974، بمنظمة التحرير الفلسطينية، ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. واعتراف الأمم المتحدة بها في 22/ نوفمبر 1974، عضواً مراقباً فيها.

لقد أعيد انتخاب عرفات رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، غير مرة. وحصل على عدة أوسمة وجوائز للسلام. ففي عام 1979، حصل على وسام جوليت نوري الذهبي، من مجلس السلم العالمي. وحصل عام 1981، على الدكتوراه الفخرية من الجامعة الإسلامية في حيدر آباد في الهند، ومن جامعة جوبا في السودان.

تكلَّل نضال الشهيد ياسر عرفات من أجل فلسطين، بعملية السلام، وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية على الأرض الفلسطينية، ومرجعيتها منظمة التحرير الفلسطينية؛ فهو القائل: "عندما نبحث عن السلام وننادي به، فليس هذا جديداً علينا كثورة فلسطينية وكشعب فلسطيني؛ فنحن لا نقاتل من أجل القتال، ولسنا مرتزقة، ولا باحثين عن الحروب. ولكننا حملنا السلاح لمواجهة الظلم والاضطهاد والاحتلال، الذي واجه شعبنا، والاعتداء الذي حدث على أرضنا ومقدساتنا. والعالم كله يعلم ذلك، وكان معظمهم شهوداً على المأساة الفلسطينية".

وطالما تعرّض عرفات لعمليات اغتيال في مناطق مختلفة. وكان من أشهرها عملية حمام الشط في تونس، حيث هدمت الطائرات الإسرائيلية، في أكتوبر 1985، مبنى منظمة التحرير؛ ولكنه نجا واستشهد العديد من أبناء فلسطين في هذه العملية.