2024-03-29 الساعة: 09:54:53 (بتوقيت القدس الشريف)

"الهيمنة على الحشائش في فلسطين": الاستشراق وقتل الجذور


نداء يونس

عنوان كتاب ومعرض تنظمه مؤسسة القطان

 

 

الفضاء البصري لكتاب ومعرض الهيمنة على الحشائش الذي تصدره وتنظمه مؤسسة القطان بمشاركة نخبة من الباحثين والفنانين الفلسطينيين يعيدنا الى الحقبة المتأخرة لفترة الانتداب البريطاني على  فلسطين (قبل النكبة) وما رافقها من سياسات لتمهيد المكان الفلسطيني لعملية احلال طويلة الامد تقوم على المحو والاستلاب واستبدال مكونات الهوية الفلسطينية لتمكين مشروع الاستلاب الاحتلالي من خلال الهيمنة على بيئة فلسطين وتطبيعها.

الجهد البحثي المؤسس للكتاب الذي يصدر في طبعة فاخرة ملونة في 546 صفحة - والمعرض الفني المرافق له والذي يوظف الجمااليات البصرية والتقنيات الرقمية - يعرض لنماذج من 45 مراسلة مع وزارة الزراعة والثروة السمكية في بريطانيا من جميع المناطق في عموم فلسطين ( المستعمرات الاسرائيلية التي انتشرت آنذاك تحت رعاية الانتداب).

تمثل هذه الوثائق جزء من "مراسلات الارشيف البريطاني: "وتكشف كما يتضح من المراسلة التي تم اختيارها افتتاحية للكتاب وتعود للعام 1940 بين ممثل منظمة مزارعي المحاصيل الحقلية ومقرها مستعمرة "رمات يوحنان" ج. يانوفسكي وكبير الموظفين الزراعيين في وزارة الزراعة والثروة السمكية في بريطانيا السيد ماسون عن تنظيم معرض متنقل شمل كافة المستعمرات اليهودية في حينه وعرض ما اسمي بالاعشاب الضارة مع شرح صوتي مرافق، فيما كشفت مراسلات لاحقة عن قائمة بـ 30 نوعا من اهم الاعشاب في فلسطين قبل وبعد النكبة  "مستهدفة بالابادة".

تكشف مراسلات اخرى عن انواع المبيدات التي استخدمتها سلطات الانتداي والمستعمرون الجدد في ابادتها، حملت بعضها عناوين مثل "نباتات سامة" و"مطار حيفا- ابادة الاعشاب الضارة" وغير ذلك.

كانت هذه النباتات الطبيعة ارتبطت بذاكرة الفلسطينيين واستخداماتهم الطبية والفلكلورية وبالاسطورة والخرافة وحتى السحر والشعوذة والتغذية وطرد الحشرات والاستخدامات الجمالية كما شكلت جزء من التنوع المرتبط بالفلسطيني وحياته وذاكرته ووجوده، الخ،

تنوعت الاعمال الفنية المقدمة بين البساطة اللافتة والاشتغال المتعدد الرؤى والتقديم مثل الجدارية النزدوجة للفنان نبيل عناني، بينما مثل مشروع تأصيل حكاية الحشائش الفلسطينية الخطابي من خلال اللغة للفنان علاء ابو اسعد واحدا من اكثر مشروعات المعرض الفنية اثارة للاهتمام حيث رصد الفنان مجموع (الكلمات والصفات المجمعة سالبة الشحنة) التي قدمت كخطاب استشراقي ضد بذور الحشائش الفلسطينية.

مثلت هذه المفردات الاقصائية ليس فقط صوت النظام القمعي واللغة التي يستخدمها لتصوير البذور والتي من خلال تكرارها تعكس جنون القوة والعنف  المستخدمين لمنع وجود بذور الحشائش بل تمثل خطابا استشراقيا لعينا ضد هذه الارض ومكوناتها حيث يتتبع العمل خطابًا عنيفًا استشراقيا تنميطيا يستخدمه الاحتلال الاسرئيلي لشيطنة واستبدال ومحو الفلسطينيين.

وصفت البذور بكلمات مثل: غير منطقي، فظ، شره، يحل محل، نتن، متلاعب، متطفل، عديم الرحمة، عنيد، قرصنة، نجس، متزاحم، واسع الانتشار، بلاء، عدائي، عفريت، غير مرغوب فيه، مشاغب، مقلق، مريض، اغتصاب جماعي، قابل لان يُقلب، الخ. فالى حد تختلف هذه الصفات عن الخطاب الاستشراقي في دولة الاحتلال ضد الفلسطيني!

الكتاب الذي يعد مرجعا فنيا وبيئيا وتاريخيا مهما يسحب مفهوم الهيمنة القائمة على مفاهيم استشراقية صرفة من الحقل السياسي والثقافي واللغوي والفني والمطبخ الفلسطيني، وهي مجالات ترد ذكرا لا حصرا، الى حقل مختلف وجديد هو الحقل البيئي ويوضح كل باحث وفنان كيف تم توظيفها في اطار اعادة كتابة علاقة الانسان الفلسطيني ببيئته وذاكرته ويضرب رمزية الحكاية والاسطورة واقحام المكان في رواية اخرى صناعية.

يشكل المعرض والكتاب بمحتوياته واجهة لثقافة بصرية تؤصل لعملية اخضاع الارض والمكان والذاكرة من خلال المكون البيئي وسياسات الهيمنة والاستبدال وتكشف عن اوجه متعددة لخطاب استشراقي مرعب الدلالة والاقتحام لتفاصيل وجود الفلسطيني في ارضه وعن اليات عمل الهيمنة في تغيير هوية المكان لصناعة واقع جديد يحول الطبيعي الى شذرة في كولاج بصري ومعرفي متناقض وفاعل.

 

  • كاتبة وشاعرة وباحثة ورئيس وحدة العلاقات العامة في وزارة الاعلام الفلسطينية